الدكتور خالد الوزني.
بات الاقتصاد السلوكي Behavior Economics، في الأونة الأخيرة محور اهتمام علماء الاقتصاد والباحثين والعالم أجمع، حتى إنَّ جائزة نوبل في الاقتصاد مُنِحَت في العام 2017 للاقتصادي الأمريكي ريتشارد ثالر، الذي كانت له إسهامات مهمّة في مجال الاقتصاد السلوكي، بفعل إسهاماته التي جسَّرت بين التحليلات الاقتصادية من جهة، والتأثيرات النفسية للأفراد عند اتخاذ قراراتهم، من جهة أخرى؛ أي في خيارات الأفراد في الشراء، والمفاضلة بين المنتجات، بل وفي زيادة الاستهلاك من مادة ما، أو الإحجام عن مادة أخرى، وفي قضايا السلوك الاقتصادي بشكل عام.
وقد كشف البروفيسور ثالر في أبحاثه في السلوك الاقتصادي عن قضايا مهمّة في توجيه الأفراد نحو اتخاذ القرارت والخيارات، وبشكل خاص في مجالات المفاضلة الاجتماعية، وفي كيفية التأثير في ضوابط النفس التي بدورها تؤثِّر بشكل كبير في سلوك الأفراد في التوجُّهات، والتفضيلات الفردية، ما يعني التأثير في نتائج السوق، والقرارت المرتبطة به.
وهنا يأتي ما اجتهد بترجمته شخصياً بمفهوم "التحفيز السلوكي" ترجمة لكلمة Nudging أو ما يُصطلَح على تسميته لدى البعض "التنبيه" أو "النَّكْز".
والحقيقة الأخيرة فيما تقدَّم تتمثَّل في أنَّ علم الاقتصاد، وهو أحد العلوم الاجتماعية، ظهر متأثراً، لا بل منتفِعاً، اليوم بمعطيات علم النفس والسيكلوجيات السلوكية، حتى بات صنّاع القرار اليوم في العالم المتقدم يتجهون نحو استغلال تلك المعطيات في تحقيق غاياتهم وأهدافهم لدى جمهور العامة، سواء أكان ذلك نحو زيادة استهلاك بعض المنتجات، أو الإحجام عنها، أو التوجيه نحو تبنّي بعض التطبيقات الذكية، أو الذكاء الاصطناعي، أو التوجُّهات نحو الالتزام ببعض الإجراءات للحصول على بعض الخدمات أو السلع العامة، أو حتى في التوجُّهات السياسية المرتبطة بفترات الانتخابات، أو استطلاعات الرأي، أو محاربة الخصوم داخلياً أو خارجياً.
وقد أثبت التطبيقات العالمية أنَّ استخدام التحفيز السلوكي قد أفضى في معظم الحالات إلى زيادة مبيعات بعض الشركات بنسب تجاوزت 50% في العديد من الحالات.
وقد استخدِم مفهوم التحفيز السلوكي بشكل كبير في دفع الناس نحو أخذ المطعوم، في مواجهة وباء كورونا، في العديد من دول العالم، بما في ذلك وضع قيود على السلوكيات في حال عدم تلقِ المطعوم، أو حتى منح حوافز للحاصلين على المطعوم دون غيرهم، ما أدى إلى الإقبال على الحصول على المطعوم بشكل أكثر بكثير مما يرغب به جمهور العامة.
هذا وقد اعتمد صنّاع القرار ومراكز التأثير في العالم سياسة التحفيز السلوكي للوصول إلى أهدافهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
والجديد بالذكر أنَّ الحكومة البريطانية تنبَّهت بشكل مُبكِّر للغاية إلى أهمية التحفيز السلوكي للوصول إلى التأثير في الجمهور، وكذلك لمعرفة وتلمُّس توجُّهات العامة، أو للتأكُّد من قيام المواطنين بالالتزام بتوجُّهات معينة، وذلك عبر إنشاء وحدة تحفيز سلوكي Nudging Unit في مقر الحكومة البريطانية عام 2010، تمَّ تسميتها "فريق البصيرة السلوكية" Behavior Insight Team، وذلك بهدف الاشتباك واتباع مؤثرات غير مباشرة تفضي إلى التأثير في قرارات جمهور العامة عبر تحفيزهم لتبنّي ما ترغب الحكومات به، أو صرفهم عن بعض السلوكيات أو التوجهات غير المرغوب بها أو لا تريدها الحكومة أو الحزب الحاكم، دون إشعارهم بأنَّ الحكومة توجههم إلى هذا الأمر أو ذاك.
الشاهد مما سبق أنَّ التحفيز السلوكي، بات علماً لا يُستهان به في التأثير في القرار العام، والقرار الخاص، على مستوى الأفراد والمؤسسات، بل هو اليوم الفضاء الذي تتحرَّك به كبريات مؤسَّسات العالم السياسية للتأثير في توجُّهات الجمهور عبر الحدود، وهي تستغله بكافة الوسائل المشروعة، وغير المشروعة، لتوجيه الأفراد والمؤسَّسات نحو خيارات اجتماعية، أو سياسية، أو اقتصادية.
وقد بات علم الاقتصاد السلوكي، والتحفيز السلوكي موضوع اهتمام صنّاع القرار العالميين، بل بات البعض يلجأ إليه للتأثير في ثقة الأفراد بمؤسَّساتهم السياسية وأنظمتهم القائمة، ما جعل علم التحفيز السلوكي من أخطر العلوم تأثيراً في اتخاذ القرار الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو السياسي.
ولعلَّ دور البحث والتطوير، ومراكز البحث، والجامعات، بل ووحدات دعم القرار في الحكومات، تتنبَّه إلى ذلك، وتجعل منه مرتكزاً لاستشراف مستقبل التوجُّهات العامة للدول، ومجالات لتحقيق بعض التوجُّهات أو التأثيرات الإيجابية في جمهور المواطنين، أو حتى عبر الحدود.
الدكتور خالد واصف الوزني
khwazani@gmail.com