بسام بدارين
عندما تلقى وزير المالية الأردني النشط الدكتور محمد العسعس اتصالاً هاتفياً بهدف «الاطمئنان» من رئيس وزراء سابق، الأسبوع الماضي، عن «خطة الوضع المالي الجديد»، كان جوابه الواضح والملموس.. «نعم سأعدل في برنامج الميزانية المالية المقررة سلفاً».
وقبل أن يقرر نائب رئيس الوزراء الأسبق محمد الذنيبات، الخروج علناً بمداخلة مثيرة يقترح فيها «اقتطاع» ما نسبته 30% من أرباح الشركات الكبرى التي خدمتها الدولة بالامتيازات والتراخيص، أجرى اتصالاً هاتفياً للاستيضاح مع المسؤول الأول عن جهاز الضريبة في الحكومة مستفسراً.
مصادر التمويل والمساعدات والتحالفات: جفاف أم «إغماءة»؟
هنا كان الجواب، وفقاً لما شرحه الذنيبات لاحقاً لـ»القدس العربي»، يتمثل في أن عوائد الضريبة في الخزينة تقلصت وفيها خسائر قدرت لاحقاً بـ 90 مليون دينار على الأقل بعد إغلاقات كورونا، قبل أن يعلن الوزير العسعس بأن «الفاقد» عملياً يبلغ حتى مساء الأحد 602 مليون دينار.
يبدو جواب العسعس في المسار المهني الفني بامتياز على الرغم من ملاحظة سجلها مختصون: كل حديث طاقم الحكومة عن «ميزانية تقشفية بتعديلات» يتواصل بدون مجلس النواب ولا لجنته المالية، حيث كان رئيس هذه اللجنة النائب خالد البكار في بداية أزمة كورونا قد حاول لفت نظر العسعس علناً، وفيما بينهما، إلى أن الحكومة ينبغي أن لا تغفل من البداية «أضرار» الإغلاق الاقتصادي على «عوائد الخزينة».
لاحقاً، تفهم «القدس العربي» من البكار بأن الحكومة آنذاك لم تستمع. لكن الحكومة، وعلى جبهة رئيسها الدكتور عمر الرزاز، كانت تتواصل فقط مع رئيس مجلس النواب عاطف طراونة، وليست في موقع الإصغاء أو الاستماع أو حتى الاستشارة المؤسسية، بسبب منطوق تفعيل قانون الدفاع.
واستأثر الرزاز والعسعس تماماً في بداية أزمة كورونا بتحديد مسار الإغلاق، وخرجت وقتها تصريحات توضح بأن الدولة الأردنية وليس الحكومة فقط قررت «المجازفة» بالحساب الرقمي المالي مقابل «تحصين وحماية أرواح الأردنيين» من الفيروس، الأمر الذي عبر عنه العسعس في بداية الأزمة عندما قال علناً بأن الخسائر المالية ليست في الحساب وتبلغ نحو 55 مواطناً مصابين الآن.
وقتها، نتج انطباع عند جميع «أطراف اللعبة الكبار» والشارع بأن الحكومة في المسألة الاقتصادية، ولاحقاً المالية، «تعرف ما الذي تفعله وتراهن عليه»، فاسترخت جبهة المواطنين وخضع الجميع لإجراءات الغلق والحظر وقوبلت الحكومة بـ»تصفيق» شعبي حار وتعاون على أساس أن لديها خطة اقتصادية ومالية قد يتبين الآن أنها لم تكن مدروسة أو حتى موجودة.
تماماً بعد نشوة الانتصار على الفيروس، كما لاحظ الناشط السياسي مروان الفاعوري، استيقظ الجميع لاحقاً في الحكومة وخارجها، وبدأ جهاز الضريبة يحصي الخسائر جراء عدم توريد ضرائب بسبب الإغلاق التام الذي شكل وصفة ساحرة لحماية أرواح الأردنيين فعلاً قبل أن يطرح وزير الإعلام الأسبق راكان المجالي، المعادلة على نحو مختلف: حماية المواطن من الفيروس رائع، لكن حمايته من البطالة والفقر أيضاً مهم جداً بدلاً من الاسترسال في المبالغات.
المجالي ليس مختصاً بالاقتصاد، لكنه قدر من البداية -وهو يتداول مع «القدس العربي»- بأن الإجراءات في الحماية الصحية ينبغي أن تقارن بدول أخرى في المنطقة والجوار، وبالتالي مؤشر التشدد في إجراءات الغلق الاقتصادي تدرس على هذا الأساس. وما قاله الوزير العسعس للأردنيين مساء الأحد «شيء من هذا القبيل» عبر جرعة قوية من المكاشفة والمصارحة، لكن بلغة فنية مباشرة لا علاقة لها بأي تسييس.
باختصار، فكرة تصريحات مكاشفة العسعس الأخيرة كالآتي: الوضع صعب ومعقد.. معركتنا بعنوان البقاء… مصادر التمويل العربية والدولية تعاني من «جفاف».
تحت ظل هذه العناوين العريضة، ثمة الكثير من التفاصيل والقناعات المترسخة في الباب السياسي، وسط إدراك متزايد عند مطبخ الحكومة بأن الجميع منشغل بنفسه، ومصادر التمويل الكلاسيكية القديمة ستصاب بحالة «إغماء» مقصودة، ولا رهان إلا على اليسير جداً من المساعدات المالية بعد الآن، ما يتطلب ضمنياً أولاً مصارحة الشعب ثم المبادرة لإصدار أمر الدفاع رقم «10»، الخاصة بترتيبات العودة للتحصيل الضريبي.
تلك عملياً وفي الحساب السياسي «صحوة مباغتة» للحكومة في مواجهة الحقيقة وبعد سلسلة تحذيرات بالجملة لنخبة من كبار رجال الدولة وإفصاحات خسائر وتحذيرات من خروج العديد من الشركات من السوق ونمو الركود واحتمالات البطالة، مما تطلب أصلاً تفعيل مسار الاستثمار في مناطق محددة بهدف التعويض وتدشين المقترحات بعنوان البحث في الجوار حيث التعاون المثمر مع سوقي العراق وسورية.
مثل هذه اليقظة المتأخرة أمام الواقع لا تعبر عن «غفلة حكومية» مبكرة بقدر ما ترتبط بحسابات لها علاقة بأولويات المواجهة مع فيروس كورونا وباحتمالات لم تتضح بعد. المهم أن العقل المالي بعد الدراسة والتمحيص استيقظ، والثقة مرتفعة شعبياً بإدارة الحكومة للمشهد حتى اللحظة على الأقل، وقبل تلك المواجهة بين «احتياجات المواطن» ووقائع الحالة، وتلك مرحلة تحتاج إلى عدة أشهر أو أسابيع.
«القدس العربي»