كثيرون سيقرأون سلسلة المقالات التي كتبها الرئيس الروسي (المقبل) فلاديمير بوتين في صحيفة «روسيسكايا غازيتا» ذات الاهتمام بالشؤون العسكرية والاستخبارية، بأنها جزء من برنامج انتخابي ينطوي على رسائل عديدة موجهة للداخل وخصوصاً للخارج «الغربي»، ولم يكن توقيت نشر هذه المقالات (عشية الانتخابات التي ستجري في 4 آذار الوشيك) صدفة...
رجل روسيا القوي أو صانع القرار الأول منذ اثني عشر عاماً حتى بعد أن خرج من الكرملين أربع سنوات «مانحاً» مقعد الرئاسة لمدير مكتبه وسكرتيره منذ أيام بلدية سابطرسبرغ التي جاء منها «الصديقان»، اراد بث الفزع في نفوس الأميركيين والأوروبيين والقول لهم إنّ أياماً صعبة تنتظرهم وأنه سيعيد «سباق التسلح» إلى صدارة المشهد الدولي، بعد أن تجاهلت واشنطن قواعد اللعبة الجديدة التي نشأت بعد إنتهاء الحرب الباردة وبدء عملية التدمير «المتبادل»، للترسانتين النوويتين الأميركية وخصوصاً الروسية لكن الإدارات الأميركية المتعاقبة، جمهورية كانت أم ديمقراطية، تنصّلت من إلتزاماتها وواصلت (هي وغيرها) وبانتظام... زيادة قدراتها النووية!!..
قد تكون تعهدات بوتين التي أوردها مدعومة بالأرقام التي سيرصدها لإعادة تسليح روسيا على نحو «لا سابق له» وبمبالغ تصل إلى 23 ألف مليار روبل (590 يورو) نقول: قد تكون مقالاته هذه مجرد حملة علاقات عامة، تستهدف ضمان أصوات الشرائح ذات التوجهات القومية في المجتمع الروسي والتي ما تزال تحن إلى أيام الاتحاد السوفياتي ودوره العالمي ومجاله الحيوي الامبراطوري الذي انقضّت عليه أميركا، وبدأت عملية قضمه ومحاصرته وصولاً إلى تحقيق هدفها الأبرز في تحجيم روسيا واضعافها وسلب قدرتها على النهوض من جديد كقوة كبرى ذات نفوذ (حتى لا نقول دولة عظمى).
كذلك قد يكون ما لوّح به بوتين، يراد من ورائه كبح جماح «الشهوة» الأميركية المتأجّجة في اظهار الرئيس (المقبل) كشخصية ضعيفة لا يتمتع بالهالة والدعم الشعبي الذي كان عليه أوائل العقد الماضي، عندما حاز على تأييد ساحق (هو وحزب روسيا الموحدة) لكنه اليوم بدأ يواجه معارضة داخلية يصعب عليه انكار وجودها وتمثّل ذلك في الاحتجاجات التي سيّرتها أطراف المعارضة وتراجع شعبية حزبه في انتخابات مجلس الدوما التي جرت في الرابع من كانون الأول الماضي..
أميركا (وأوروبا نسبياً) في رأي بوتين تحاول التدخل في انتخابات 4 آذار المقبل، كي تعرقل نجاح بوتين من الجولة الأولى وهي (واشنطن) لا تساورها أي أوهام بأن بوتين هو رئيس روسيا العائد إلى الكرملين لكنها تريد ان تظهره ضعيفاً وهشاً أمام معارضة آخذة في التنامي والظهور بمظهر من له أنياب قادرة على مشاغلة «دب» الكرملين، عبر جولة ثانية «يُساق» إلى خوضها.
كل ذلك يبدو قائماً ووارداً في ذهن رجل الـ»كي جي بي» السابق، إلاّ أنه أيضاً يعني بأن الرجل قرر إحداث قطيعة مع الماضي المتسامح (...) الذي ابدته موسكو تجاه الغرب، لكنه (الغرب) وبخاصة أميركا، لم يُظِهر أي حُسن نيّة تجاه روسيا، بل امعن في «مطاردتها» عبر كل محفل ومنبر ومؤتمر وساحة، (كما حدث في ليبيا ويجري في سوريا وقبلهما في جورجيا واكرانيا وبيلاروسيا ودائماً في نصب الدرع الصاروخية في بولندا والتشيك وتركيا).
ليس صدفة أن يورد بوتين في مقالته جملة تعكس في مضمونها فهماً لهذه الهواجس «.. وفي هذا المجال، ليست ثمّة مبالغة في الوطنية.. يجب أن نبني جيشاً حديثاً قادراً على التعبئة في أي وقت».
قصارى القول، أيّاً كانت الدوافع التي أملت على الرئيس الروسي (المقبل) الدخول إلى حلبة «مصارعة» جديدة، مع حلف الأطلسي وعلى رأسه أميركا، فإننا أمام نظام دولي جديد أخذ في البروز والتشكّل يتجاوز ما تحدث به كثيرون بعد إنتهاء الحرب الباردة ويقفز عن المقولة (التي سقطت) أن القرن الحادي والعشرون هو قرن أميركي..