التاريخ : 2017-04-01
قمة عمان ..لمن نرفع القبعات
الراي نيوز
كتب – ناصر قمش/
تابعت الشعوب العربية القمة الأخيرة في الأردن دون أن تبني آمالاً عريضة على نتائجها، وربما استطاع الأردن وللمرة الأولى منذ زمن طويل في تاريخ القمم العربية أن تطرح الشكل الذي قدمته للمتابعين ليصبح حدثاً بحد ذاته منفصلاً عن الموضوع السياسي، فالعالم بأسره تابع إمكانيات دولة حديثة وطموحة ومتوثبة في تقديم نفسها لتصبح الإدارة الفنية واللوجستية الأردنية في مرحلة ما هي العامل الأساسي في تقييم القمة الأخيرة كما تناولتها الصحافة. ووجد العديد من المتابعين والمعلقين السياسيين أنفسهم يدخلون في أجواء الإشادة بحسن التنظيم وكرم الضيافة وتقاليد الحفاوة الأردنية التي أعطت جرعة من الإيجابية لمنظمة عمل عربي تعاني من الإحباطات والسلبيات التي وصلت ذروتها في القمم الأخيرة.
غامرت عمان، بجرأة وثقة، باستضافة القمة في ظروف معقدة وحرجة وحساسة.
فالقمة كانت مثل كرة ساخنة يحاول الجميع أن يتجنبها، وتوالت الاعتذارات والتشكيكات في جدوى القمة من الأصل، ولكن الواجب الأخلاقي والقومي الأردني، وسيرته العطرة نع العمل العربي، يجعل عمان تتقدم تجاه أداء دورها التاريخي في هذه المرحلة، فشهدت القمة نجاحاً غير مسبوق منذ زمن طويل في مستوى التمثيل بما يشكل نجاحاً كبيراً للدبلوماسية الأردنية التي عملت تحت توجيه شخصي من جلالة الملك، وإن كان الحدث الدبلوماسي قابلاً للمتابعة من خلال التحركات الملكية ومن خلال الزيارات الوزارية، فإن جهوداً أخرى كانت تتوزع بين آلاف الجنود المجهولين الذين أعدوا بنيان القمة للوصول إلى منجز يستحق التوقف عنده، والبحث عن القادة الميدانيين والمنسقين الأساسيين لإخراجه في هذا المستوى المشرف.
استضافت عمان القمة العربية في المرة السابقة سنة 2001 وعملت على تأسيس قاعة للمؤتمرات في أحد الفنادق في قلب المدينة على عجل ضمن مجموعة متواضعة من مقومات البنية التحتية. ومع عودة القمة لعمان بعد ١٦ عاما كان أهالي عمان من خبرتهم السابقة يخشون أن تعطل القمة إيقاع الحياة اليومية في المدينة التي نمت لتقارب ٤ مليون قاطن.
وربما كان الفريق المشرف على الجانب التنظيمي يدرك ذلك التحدي جيداً، لذلك مثلت القمة امتحانا تنظيميا لقدرات الاردن وامكاناته.
وأتى القرار بأن تنعقد القمة في البحر الميت لكي لا يدفع بالأردنيين إلى الضيق بالقمة خاصة أنها لا تحمل وعوداً كبيرة على المستوى السياسي، ومجرد اختيار منطقة البحر الميت كان يشتمل على العديد من التحديات، فعلى الرغم من أن سنوات العمل لتحويل هذه المنطقة المتميزة من الناحية الجغرافية إلى قبلة عالمية لسياحة المؤتمرات، إلا أن استضافة الوفود العربية رفيعة المستوى كان يتطلب إجراءات معقدة على مستوى التنظيم والجانب الأمني، ويجعل امتداد مسرح عمليات تجهيز القمة وتنفيذها ممتداً بصورة مرهقة للقائمين عليه، ومع ذلك أتى قبولهم للتحدي والإنجاز وفي فترة قياسية وضمن معطيات متسارعة ليؤشر على طبيعة الشخصية الأردنية ومزاجها الخاص للنهوض بالتحديات النوعية.
لقد مثلت الاستثمارات في سياحة المؤتمرات التي بدأت في البحر الميت على الدوام محط جدل بين النخب الاردنية حول جدواها الا أن ما رأيناه في القمة يعكس استشرافا وبعد نظر عند القيادة السياسية بان هذ البنية التحتية لسياحة المؤتمرات حققت الغاية من وجودها بعد ان بدأ العمل بها منذ اكثر من عشر سنوات فباتت اليوم قادرة لوجستيا على احتضان مؤتمرات على مستوى عالمي واستطاعت هذه المجزات السياحية احتضان قمة ضمت 18 وفدا رفيعا دون تعطيل الحياة في عمان، ومن ما يجدر التوقف عنده ايضا هو الادارة الذكية للموارد من خلال تنفيذ سلسلة من الفعاليات امتدت لأسبوع من ٢٣ وحتى ٢٩ هي القمة على مستوى القادة واجتماعاتها التحضيرية، وزيارة خادم الحرمين والتي نفذت بسلاسة وأناقة، وضعت الأردن في قلب الحدث والضوء.
آلاف الجنود المجهولين كانوا يعملون في صمت على امتداد أسابيع، ويصلون الليل بالنهار مع اقتراب موعد الاستحقاق وبدء توافد الزعماء العرب للأردن، رفعوا شعارهم بنسبة خطأ صفرية تليق بالأردن وسمعته، وتابع العالم الأردن الشاب وإمكانياته ومنجزاته في صورة تليق بأكثر دول العالم تقدماً، فالفعاليات التي جرت على التوازي استندت لتنظيم لم يترك شيئاً للصدفة أو الارتجال ولم يرض بثقافة الحد الأدنى، وضرب مثلاً في حصافة إدارة الموارد بالصورة اللائقة، فلم تشهد القمة مبالغة في المظاهر أو الهدر، فكل شيء كان محسوباً ليقدم بصورة أنيقة ومتناغمة، وكان للتشريفات الملكية والحرس الملكي الدور المحوري في التنفيذ بما يمتلكانه من ذاكرة وخبرة مؤسسية في إدارة الأحداث الكبرى وعلاقات طيبة وتكاملية مع مختلف الأذرع التنفيذية في الأردن ما مكنها من أن تمسك بالعصا السيمفونية ليبدأ العزف الذي وضع الأردن في قلب الحدث العربي والعالمي على امتداد أسبوع من الزمن كتبه الأردنيون من أجل الخلود في الذاكرة، وجعلوه درساً يقتدى، وهو ما يكرس مكانة مؤسسة القصر بوصفها مؤسسة عريقة استطاعت أن تمثل روحاً أردنية أصيلة، وتحضر جيلاً من رجال البلاط الذين يعتبرون امتداداً لعراقة الملك الأقدم في المنطقة العربية.
القمة المتقنة في تفاصيلها ومحتواها كانت كتاباً مفتوحاً أمام الإعلام الأردني والعربي والعالمي، وتعامل المنظمون مع ١٥٠٠ إعلامي بانفتاح وشفافية وأتاحوا أمامهم الفرصة لينقلوا الحدث بكل تفاصيله، وبث التلفزيون الأردني ما يزيد على ٣٠ ساعة من التغطية المباشرة من عدة مواقع، بما يمثله ذلك من تحديات هندسية وإخراجية.
المحتوى السياسي الزخم كان يدفع الصحفيين للتصرف بغريزة البحث والتقصي المفرطة وكان يتوجب على المنظمين أن يتفهموا هذه النقطة، وبدلاً من الدخول في لعبة الجذب والشد مع الإعلاميين، فإن الصحافة والتلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي وجدت الدعم من خلال منصات إلكترونية باللغتين العربية والإنجليزية وإيجازات ومؤتمرات صحفية يومية. توحد الرسالة والمعلومة المرتبطة بالقمة.
وهذا الموديل/النموذج الإعلامي يرفع من مستوى التحدي التنظيمي للقمم القادمة إذا ما أرادت أن تجاري ما تم انجازه في الاردن، ذلك ان إطلاق منصات للقمة على مواقع التواصل الاجتماعي ينطوي على تعقيدات ومحاذير ابرزها التعاطي مع جزئيات حساسة تتعلق بمداخلات المتابعين حول الوضع في سورية والدولة الفلسطينية وغيرها الا ان الاردن نجح في جعل هذه المنصات جزءا من التفاعل الإيجابي، فكانت قمة عمان ٢٠١٧ أول قمة رقمية تسعى للوصول للشباب العربي العازف عن متابعة نشاطات العمل العربي.
ومن اللفتات الإعلامية التي تستحق التوقف عندها، حملة اليافطات الترحيبية الخارجية، فلاحظنا تزين شوارع عمان والبحر الميت بلوحات تحمل أعلام الدول العربية وصور أيقونية لمناطق معروفة فيها نفذ عليها عبارات مقتبسة من كل نشيد وطني.
فصنعت حالة من المؤانسة لكل المتواجدين وترحيباً يستوعب الجميع ويتكامل في صورة أنيقة وجدت صداها في عمان التي تزينت بأبهى حللها ورسخت مكانتها بوصفها عاصمة العرب.
بعض هواة البحث عن السلبيات أضناهم اكتمال التفاصيل وروعة الصورة الكلية، فذهبوا للحديث عن الجدوى الاقتصادية للقمة على الأردن، متناسين أن هذه الجوانب السيرمونالية (الاحتفالية الوطنية) تعتبر جزءاً من أدوات تعزيز الثقة والإيجابية والترويج، وإنعاش بعض القطاعات الاقتصادية الخدمية، ونرى ذلك في حرص العديد من الدول على استضافة وتنظيم الأحداث الوطنية والعالمية الكبرى، مثل قمم المناخ، والـ G 20، والأولومبياد، ويوبيلات الاستقلال أو الانتصارات العسكرية، وغيرها من الأحداث.
وإذا كان الأردن لا يستطيع أن يبني أبراجاً تمتد لمئات الأمتار في السماء، أو تماثيل تزن آلاف الأطنان، فإنه يقدم شبابه المبدع والمتقن لعمله والمحب لبلده من خلال هذه القمة للعالم، ويجعل السياح المحتملين، سواء على مستوى المؤتمرات أو الأفراد يتعرفون على المملكة وإمكانياتها ورحابتها ويقدمون بثقة على التعامل مع مرافقها ومناطقها المختلفة، فالاحتفالية والمناسبة الدولية تعتبر جزءاً من سياسة اقتصادية بعيدة المدى لا يمكن أن تنحصر في تفاصيل أسابيع أو أشهر، وإنما تمتد لبناء صورة إيجابية متكاملة تنبني في ذهنية المتابعين، ولذلك فإنهم ظهروا كمن ينطبق عليهم المثل في اعتبار الاحمرار عيباً في الورد.